بسم الله الرحمن الرحيم
في الثالث من شعبان غمر بيت الرسالة نور ، سنيٌّ متألقٌ ، إذ جاء ذلك الوليد المبارك واصطفاه اللـه ليكون امتداداً للرسالة ، وقدوة للأمة ، ومنقذاً للإنسان من أغلال الجهل والعبودية .
ولا ريب أننا سوف ننبهر إذا لاحظنا بيت الرسالة وهو يستقبل الوليد الجديد ، فهذا البيت البسيط الذي يستقر على مرفوعته الأولى الرسول ، الجد الرؤوم ، والوالد الحنون .
وأتاه الخبر : أنه وُلِدَ لفاطمة (ع) وليد ، فإذا به (ص) يغمره مزيج من السرور والحزن ، ويطلب الوليد بكل رغبة ولهفة !.
فماذا دهاك يا رسول اللـه !. بأبي أنت وأمي ، هل تخشى على الوليد نقصاً أو عيباً ؟!
كلا .. إن تفكير صاحب الرسالة يبلغ به مسافات أوسع وأبعد مما يفكّر فيه أي رجل آخر ، ومسؤوليته أعظم من مسوؤلية أب أو واجبات جد ، أو وظائف قائد .. إنه مكوِّن أمة ، وصانع تاريخ ، ونذير الخالق تعالى إلى العالمين .
إنه يذهب بعيداً في تفكيره الصائب فيقول : لابد للمنية أن توافيه في يوم من الأيام ، ولابد لجهوده أن تفسح أمامها مجالات أوسع مما بلغتها اليوم ، فسوف تكون هناك أمة تدعى ( بالأمة الإسلامية ) تتخذ من شخص الرسول أسوة وقدوة صالحتين .
ولابد لهذه الأمة من هداة طاهرين ، وقادة معصومين يهدون الأمة إلى الصراط المستقيم .. إلى اللـه العزيز الحكيم ..
وسوف لايكونون - كما أخبرته الرسالة مراراً - إلاّ ذريته هؤلاء ، علي ابن عمه ، وولداه (ع) ، ثم ذُرِّيتهم الطيبة من بعدهم !.
ولكن هل تجري الأُمور كما يريدها الرسول في المستقبل ؟. إن وجود العناصر المنحرفة بين المسلمين نذيرٌ لا يرتاح له الرسول (ص) على مستقبل الأمة .
وإن الوحي قد نزل عليه غير مرة يخبره بأن المصير الذي رآه الحق المتمثل في شخص الرسول (ص) هو نفس المصير الذي يترقبه الحق المتمثل في آله (ع) ، وأن العناصر التي قاومت الرسالة في عهده سوف تكون نفس العناصر التي تقاوم - بنفس العنف والإصرار - امتداد الرسالة في عهد أبنائه الطيبين صلوات اللـه عليه وعليهم .
فقد علم أنه سوف تبلغ الموجة مركزها الجائش ، وسوف يقف أنصار الحق والباطل موقفهم الفاصل في عهد الإمام الحسين (ع) ، هذا الوليد الرضيع الذي يُقلِّب وجهه فيظهر مستقبلُه على ملامح الرسول وهو يضطرب على ساعديه المباركتين .
والنبي (ص) يلقي نظرةً على المستقبل البعيد ، ويعرج فيه فيلقي نظرة أخرى على هذا الرضيع الميمون فيهزه البُشر حيناً ، ويهيج به الحزن أحياناً ، ولا يزال كذلك حتى تنهمر من عينيه الوضيئتين دموع ، ودموع ...
يبكي رسول اللـه (ص) .. وما أشجعه ، وهو الذي يلوذ بعريشه أشجع قريش وأبسلها ، علي بن أبي طالب (ع) حينما يشتد به الروع ، فيكون أقرب المحاربين إلى العدو ، ثم لايفل ذلك من عزمه ومضائه قدر أنملة ، لكنه الآن يبكي وحوله نسوة في حفلة ميلاد .. فما أعجبه من حادث !..
تقول أسماء فقلت : فداك أبي وأمي ممَّ بكاؤك ؟! قال : على ابني هذا ؟
فقلت : إنه ولد الساعة يا رسول اللـه ؟!
فقال : “ تقتله الأمة الباغية من بعدي . لا أنالهم اللـه شفاعتي “ [1] .
إن القضية التي تختلج في صدر رسول اللـه (ص) ليست عاطفة إنسانية أو شهوة بشرية حتى تغريه عاطفة إعلاء ذكره وبقاء أثره في آله .
كلا .. بل هي قضية رسول . اصطفاه اللـه واختاره على علم منه ، بعزمه ومضائه ، وصدقه وإيمانه .
قضية مَن تَحمَّل مسؤولية أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال الرواسي .. إنها مسؤولية الرسالة العامة إلى العالمين جميعاً .
والحسين (ع) ليس ابنه فقط ، بل هو قدوة وأسوة لمن ينذر من بعده ، فنبأ مصرعه - هو بالذات - نبأ مصرع الحق بالباطل ، والصدق بالكذب ، والعدالة بالظلم ... وهكذا .
فيبكي النبيُّ (ص) لذلك ، ويحق له البكاء ..
أنها ظاهرة ميلادٍ غريبة نجدها الساعة في بيت الرسالة تمتزج المسرة بالدموع ، والإبتسامة بالكآبة .. فهي حفلة الصالحين تدوم في رحلة مستمرة بين الخوف والرجاء ، والضحك والبكاء .
لنصغ قليلاً لنسمع السماء هل تشارك المحتفلين في هذا البيت الهادئ البسيط .
نعم . نسمع حفيفاً يقترب ، ونظنه حفيف الملائك ، فإذا بهم ملأوا رحاب البيت .
يتقدم جبرئيل (ع) فيقول :
“ يا محمد ! العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول : علي منك بمنزلة هارون من موسى ، ولا نبي بعدك . سمِّ ابنك هذا باسم ابن هارون ؟
فيقول النبي (ص) : وما اسم ابن هارون ؟
فيجيب : شُبَير .
فيقول النبي (ص) : لساني عربي ؟!
فيجيب جبرائيل : سَمِّه الحسين . فيسميه الحسين
ويأخذ النبي (ص) الرضيع الميمون بيديه ، ويحتضنه ويؤذن في إحدى أُذنَيه ، ويُقيم في الأخرى . ثم يجعل لسانه في فم الوليد فيغذيه من رضابه الشريف ما شاء .
ثم يعقُّ عنه بعد اسبوع بكبشين أملحين ، ويتصدَّق بزنة شعر رأسه بعد أن حلقه دراهم ، ثم يعطِّره ويومئ إلى أسماء فيقول : “ الدم من الجاهلية “ .
وهكذا ينقلب الجد الحنون إلى أسوة حسنة للمسلمين ، فلا يكتفي بإجراء الآداب الإسلامية ، وهي في روعتها ونضارتها - عملاً - وإنما ينسخ بالقول أيضاً لعنة الجاهلية ، حيث كانوا يضمخون رؤوس ولدانهم بالدم إعلاناً لتوحشهم ، وإيذاناً لطلب تِراتِهم .
ولـــم يزل ذلك الوليد المبـارك يترعرع في أحضان الرسالـــــة ، ويعتني به صاحبها محمــــد (ص) وربيبهـــــا
علي (ع) حتى بلغ من العمر زهاء سنتين ، ولكن لم يتفتح لسانه عن أداء الكلام أبداً .
عجباً . إن ملامح الوليد تدل على ذكاء مفرط ، ومضاء جديد ، ومع ذلك فَلِم لم يتكلم بعد ، أيمكن أن يكون ذلك لثقل في لسانه ؟!
وذات يوم إذ اصطف المسلمون لإقامة صلاة الجماعة ، يَؤمُّهم الرسول الأعظم ، وإلى جانبه حفيده الحبيب الحسين (ع) ولمَّا تهيأ القوم للتحريم ، كان الخشوع مستولياً على القلوب . والهدوء سائداً على الجو ، والكل ينتظرون أن يُكَبِّر الرسول فَيُكَبِّروا معه ، فإذا هم بصوته الخاشع الوديع يكسر سلطان السكوت ويقول : اللـه أكبر ...
وإذا بصوت ناعم خافت يشبه تماماً صوت النبي (ص) بكل نغماته ونبراته وما فيه من خشوع ووداعة يقول : اللـه أكبر ...
إنه صوت الحسين (ع) .
فكرر الرسول : اللـه أكبر ... فأرجع الحسين اللـه أكبر ، والمسلمون يستمعون ويكبِّرون ، ويتعجبون !! فردد الرسول (ص) ذلك سبعاً ، ورجَّعه الحسين (ع) سبعاً ، ثم استمر النبي (ص) في صلاته والحسين (ع) يسترجع منه .
فقد كانت أول كلمة لفظها فم الحسين (ع) كلمة التوحيد : اللـه أكبر .
وفيما نخطوا مع التاريخ بعض الخطوات الفاصلة ننظر إلى هذا الوليد بالذات - ذلك الذي لم يفتح فمه إلاّ على كلمة اللـه أكبر - ننظر إليه بعد خمس وخمسين سنة وهو يمارس آخر خطوات الجهاد المقدس ، ويعالج آخر لحظات الألم وقد طرح على الرمضاء ، تلفحه حرارة الشمس ، ويمزق كبده الشريف حر العطش ، ويلفه حر السلاح المصلصل .
فنستمع إليه وهو يحرّك شفَتَين طالمــــا لمستهما شَفَتا رسول اللـه (ص) يتضرع إلى بارئـــــه ، يقــــول : “ إلهي ... رضاً برضاك ، لا معبود سواك “ .
ولايزال يتمتع حتى يُعرج بروحه الطاهرة المقدَّسة إلى السماء ، عليه أفضل الصلاة والسلام