الحق في العمل والضمان الاجتماعي
تعد فكرة العمل في الفكر الغربي من المضامين الجديدة التي جاءت بها البروتستانتية، فالعمل كما نادت بذلك الكنيسة في العصور الوسطى ليس فضيلة ولكنه عقاب بينما نظرت البروتستانتية إلى العمل نظرة مقدسة وأعلت من شأنه وكان لهذه النظرة دور في التقدم الرأسمالي، فالبروتستانتية أكدت على ان الله يحب العاملين من البشر الذين يعبدونه ولا يحب الكسالى كما نادى بذلك كالفن، ويلاحظ كثرة الأعياد الدينية لدى الكاثوليك وقلتها لدى البروتستانت(76).
وقد أغفلت الدساتير المكتوبة الأولى إلى حدٍ ما الإشارة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بصورة مباشرة إلا ان هذا الإغفال لم يقدر له ان يستمر وبشكل خاص في الدساتير التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى سواء تلك التي ظهرت في أوربا الشرقية أو أوربا الغربية أو بقية أصقاع العالم، ومثال ذلك الدستور الألماني الصادر سنة 1919 والدستور الاسباني الصادر سنة 1931 والدستور الإيطالي لعام 1947(77)، إذ سعت النصوص الدستورية التي تناولت موضوع العمل والضمان الاجتماعي إلى تحقيق فكرة الأمن الاقتصادي للمواطن التي قادت بدورها إلى الاعتراف بحق العامل في عمل نافع وملائم يحفظ له كرامته ويتناسب مع احتياجاته الإنسانية التي تتمثل في حياة لائقة فعمل الإنسان وجهده لا يمكن ان ينظر اليهما باعتبارهما مجرد سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب، لكن الأجر الذي يدفع يجب ان يؤمن للعامل متطلبات حياة إنسانية كريمة له ولأسرته في حدود ما تسمح به ظروف المجتمع وهذا ما يتطلب بدوره ترتيب نظام للتأمين ضد العجز والشيخوخة وحوادث العمل، وبالاستناد للأفكار المتقدمة نصت المادة 118 من الدستور السوفيتي الصادر عام 1936 على حق مواطني الاتحاد السوفيتي في العمل من زاوية تأمينه لكل مواطن مع ما يقابله من أجر يتناسب مع كميته ونوعيته وكذلك الحال مع الدستور البولندي الصادر عام 1952 حيث كفل الحق في العمل لكل مواطن وهذا الحق المضمون دستورياً (تؤمنه الملكية الاجتماعية للوسائل الأساسية للانتاج، وتنمية نظام اجتماعي تعاوني خال من كل استغلال في الريف، وكذلك الزيادة المخططة للقوى الانتاجية، والقضاء على اسباب الأزمات الاقتصادية وتصفية البطالة)، كما أشار هذا الدستور في المادة 60 منه إلى الحق في توفير الحماية الصحية من المرض والمساعدة في حالات العجز عن العمل عن طريق تنمية التأمينات الاجتماعية للطبقة العاملة وتحسين المستوى الصحي في الأرياف والمدن وخلق ظروف آمنة للوقاية والصحة أثناء العمل والتوسع في تقديم الخدمات الطبية المجانية(78).
وهناك نصوص حملت المضمون ذاته وبصياغات قاطعة في دستور الصين الصادر عام 1954، وأمنت هذه النصوص الدستورية المُنَظِمَةْ لحق العمل والضمان جانباً مهماً من اهتمامات الإنسان وحاجياته في العمل والتأمين الصحي بما ينطوي عليه من علاج مجاني وتلقي العامل لأجره كاملاً أو الجزء الأكبر منه طوال المدة التي يتغيب فيها عن العمل نتيجة المرض، فضلا عن التأمين ضد العجز عن العمل نتيجة الاصابة أو الشيخوخة وتأمين الأمومة بمنح الأمهات الحوامل العناية الطبية والاجازات المناسبة للوضع وإنشاء دور الحضانة والمراكز الطبية، وتكررت هذه الإشارات في دستور الصين الصادر عام 1978(79).
ان ضمان حق العمل لا يقتصر على توفير أو ضمان تحقيق أجر عادل للعمال في ظل ظروف عمل ملائمة فقط إذ ان هناك حقوق أخرى مكملة، كالحق في تكوين النقابات، والحق في الاضراب، والحق في المشاركة بإدارة المشاريع التي يعمل فيها العامل، والحق في الضمان الاجتماعي ضد المرض والعجز والشيخوخة واصابات العمل، والحق في الراحة والتمتع بأوقات الفراغ ولم تكن هذه التطورات قد تمت بخطوة واحدة لكنها كانت نتيجة لتغيرات عديدة تناولت مفاهيم مختلفة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فمفهوم الحرية لحقه تغيير جوهري بعد الحرب العالمية الأولى إذ حل الأجر محل الملكية نتيجة نشوء الصناعات الكبيرة في أوربا فأكثر المواطنين من العمال ويكفي ان يغلق أحد المصانع أبوابه ليجد العامل نفسه في مواجهة البطالة وقادت هذه النتيجة إلى ان أصبحت فكرة الأمن المادي هي شاغل الغالبية من الناس حتى لو كان ذلك على حساب الحرية التقليدية فأصبح الفرد مستعداً للتخلي عن جزء من حريته للوصول إلى تحقيق أمنه الاقتصادي وبهذا الشكل عدت الحرية الأداة التي تمكن الفرد من الوصول إلى الرفاهية من خلال تحقيق الأمن المادي(80).
وعلى هذا الأساس صدرت الدساتير والقوانين التي حمت هذه الحقوق ففي الولايات المتحدة الأمريكية صدرت تشريعات عادية تضمنت بعض الحقوق التي اشرنا إليها بعد الأزمة الاقتصادية التي حدثت سنة 1935 والتي أطلق عليها اسم (السياسة الجديدة)، أما في انكلترا فقد قررت بعض الحقوق ذات المضامين الاقتصادية والاجتماعية بموجب قوانين صدرت عن البرلمان الانكليزي ابتداءاً من نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم تكن فرنسا بعيدة عن هذه التطورات إذ تضمن دستور 1946 في مقدمته تحديداً شاملاً لهذه الحقوق ومنها تضمين القوانين لفكرة المساواة بين الرجل والمرأة في المجالات كافة، وضمان حقوق العمال، بالتأكيد على حق العمل، وعدم جواز ان يضار إنسان من عمله بسبب الجنس أو الرأي أو العقيدة، والحق في ان ينضم أي إنسان إلى النقابة التي يمكن ان تدافع عن مصالحه، وأقر الحق في الاضراب ضمن حدود القانون الذي ينظمه، فضلاً عن ضمان التأمين الصحي والراحة، والحق في التمتع بأوقات الفراغ وتوفير الوسائل الضرورية لاستمرار حياة العاجزين عن العمل نتيجة الشيخوخة أو المرض(81).
وفي الدستور الفرنسي النافذ والصادر عام 1958 فقد نص على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تضمنتها المبادئ السابقة ولكن بطريقة غير مباشرة إذ أُشير إلى تمسك الشعب الفرنسي بإعلان سنة 1789 ومقدمة دستور 1946.
وهنا يمكن الإشارة إلى حقيقة تتمثل في ان الديمقراطيات الغربية لم تعطِ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نفس القدر من الأهمية التي تعطيها للحقوق والحريات الفردية فمجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دساتير الدول الرأسمالية هي مجرد أهداف عامة يجب على الحكومات ان تحاول تحقيقها في حين ان الحريات التقليدية تتمتع بحماية تشريعية وقضائية تمنع الاعتداء عليها أو الحد من فعاليتها(82).
ومن المهم القول بان الدستور العراقي لعام 2005 قد اكد في المادة (22) منه على ان العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة ، كما نص على الحقوق الاخرى التي تساهم في كفالة هذا الحق من قبيل تأسيس النقابات والاتحادات المهنية وحرية الانضمام اليها .
وفي المادة (30) منه اورد ( تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة او المرض او العجز عن العمل او التشرد او اليتيم او البطالة ، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقه ,وتوفر لهم ,السكن والمناهج الخاصه لتاهيلهم والعنايه بهم , وينظم ذالك بقانون ) .
ومن جانبه اكد الدستور الاردني النافذ لعام 1952 في الماده (23) منه على حق العمل لجميع الاردنيين , كما اشار الى واجب الدوله في توفيره لهم باجور تتناسب مع كمية العمل وكيفيته , كما قرر تعويض خاص للعمال المعيلين , وفي احوال التسريح و المرض والعجز واصابات العمل .